وشيءٌ مثلُ رائحةِ اشتعالِ الزنبقِ البريِّ..
يسري في فضاء الروحِ..
أسمع من تخوم العمر إيقاعَ الجيادِ العادياتِ..
المقبلاتِ، المدبراتِ، الموغلاتِ وراءَ حُلْمِ الفاتحينَ..
كأنَّ زوبعةً تقومُ الآن في جَسَدي..
كأنَّ يداً من النعناع تُوقد شعلةَ الذكرى..
وتبعثُ في المدى الطفلَ الذي كانت تُرَبيه الغزالةُ..
ثم تُؤْويه النجومُ
من أين يأتي كلُّ هذا البحرِ، هذا الجمرِ،
هذا الوردِ، هذا الشهدِ، هذا الوجدِ، هذا الرعدِ،...
من أين العصافيرُ التي تحتلُّ حنجرتي، ومن أين الغيومُ!
من أين موسيقى السنابلِ، لسعة القُرّاصِ..
أصداءُ النوارسِ، دفْقة الشعر العَصِيْ!
من أين مزمار الرعاة يعيدني مِنّي إلَيْ!
من أين يخطفُ لونَه هذا المساءُ
الحبُّ ثانيةً إذنْ...
والأرضُ تَصْعَدُ كي تُقبِّلها على أَلَقٍ سماءُ!
.....
الحبُّ ثانيةً....
تعاليْ وادخلي في قلب مملكتي
إلى طقسٍ من البَخّور والفوضى
إلى حيثُ النوافذُ مشرعاتٌ للغيوم وللنجومِ..
وللفصول، وللرياح، وللخيولِ الطائراتِ..
وكلِّ ما تلِدُ الخرافاتُ القديمةُ، كلِّ ما يلدُ الفضاءُ
عندي كلامٌ تأنس الغيلان منهُ..
وتستعيرُ براثناً منه الظّباءُ
عندي كلامُ تستفيقُ على مواجعه النساءُ
عندي كلامٌ نصفه عرسٌٌ، ونصفٌ كربلاءُ!
لغتي بحارٌ ضلَّ فيها السندبادْ
بحثاً عن امرأة تعيدُ الروحَ للروح التي صعدتْ بها ريحُ الرمادْ
لغتي مروجٌ من ذهبْ
لغتي عناقيدُ الغضبْ
لغتي خيال نازف من عمق ذاكرة العربْ
لغتي مرايا الروح، إيقاعُ السنابلِ..
حين تنمو في جدارِ السجنِ، في أفقٍ تُطوّقه السلاسلْ
لغتي غزال نائمٌ ما بين مقتول وقاتلْ
لغتي إذا شاءتْ زنابقُ، أو حرائقُ..
أو نمارقُ، أو بنادقُ..
او نهودٌ أو قنابلْ
لغتي اشتعال القلب في درب الصبايا
لغتي شهيدٌ لم يزل يمشي على دمِهِ، وما زالت تطارده الشظايا
أنا.. من أنا؟
أنا ساعةُ العصفِ الجميلِ، أنا هبوب الزوبعهْ
وأنا صعودٌ في الفضاء، أنا الحدودُ المشرعهْ
وأنا البيارق والبيادق والفصول الأربعهْ
في لحظة تلد الزمانَ ولا يُطوّقها الزمانُ
وأنا المكان لكل من عزّتْ مراميه وضاق به المكانُ
وأنا مشاع للعصافير النبيله
وأنا شراع المبحرين إلى الشطوط المستحيله
وأنا فَراش دائر أنّى تدور به جديله
النيلُ ينبع من شراييني، فلا ثَمَّ امرأه
ذاقتْ على عجل هوايْ
إلا وظلّتْ جمرةٌ ظمأى تُعاودها
ويحملها الحنين إلى حمايْ
فدعي سؤالكِ واتبعيني
نامي على روحي، على صدري، على شِعري، على جمري
على عشب تخلَّق من جنوني
نامي على غيم تقطَّر من حنيني
نامي على موجٍ تكوَّن من فنوني
نامي أكنْ، نامي تكوني
ودعي سؤالك واتبعيني
مُرّي براحتكِ النديّة فوق روحي واعزفيني
ما زال في صدري أغانٍ يبحثُ الشرطيُّ عنها..
والمدى حَرَسٌ، وأحلامي يقيني
الحب ثانيةً... وليس الحبُّ إلا أن أكون وأن تكوني!
وطني يداكِ، ولا أرى فيما أرى
إلا حقولَ القمحِ والخرّوبِ..
والصخر الذي صنعت يدايَ به جبيني
فدعي سؤالك واتبعيني
وطني يداك ولا أرى فيما أرى إلا فضاءً حافلاً بالقبّراتِ
وأرى الأزقّة والسنابل والمصاطب والبيادرَ..
والخرافات التي صنعتْ عوالم كائناتي
وأرى الجدائل تشنق العشّاق والطلاب في درب البنات
وأرى صبياً هائماً..
ألقى كراريسَ القواعد حين فاجأه الهوى عصراً..
وخلفه قتيلاً في العيون القاتلاتِ
الحب ثانيةً، وليس الحب إلا أن أكون وأن تكوني
فدعي سؤالك واتبعيني
حتى تخوم المستحيلْ
ناري براكين الجسدْ
ودمي نخيلْ
والروح أسرار الأبد
والعمر أكثره قليلْ
في داخلي يعدو ولدْ
خلف الفراشة والصهيلْ
قلبي بلادٌ في بلدْ
ودمي اشتعالات الأصيلْ..
****
الحب ثانيةً
تعالَيْ وادخلي في قلب مملكتي
إلى حيث الزمان بلا زمان والمكان بلا مكانِ
فهنا المعري يقرأ الدنيا ويكتشف المعاني في المعاني
وهنا المَعَرّي يقرأ التاريخ والآماد في خطف الثواني
ويرى الملاحم والمعارك والمعارج والمدارج في جذوع السنديانِ
وهنا المعري يُبصر الأضداد في الأضدادِ..
والدنيا تدور كما تشاء لها الأماني
وهنا المعري في سرير الشهد يكتشف الزوابع والتوابع في الجسدْ
وهنا المعري قد أضاءتْ مقلتاه الى الأبدْ
وهنا المعري لازماً ما يلزمُ
نهداً كحُقّ العاج مبهوراً يُعلّمه الذي لا يعلمُ
****
وهنا أبو الحسن النّواسي
متوحّداً في الكون يصنع كونه في قعر كاسِ
ويرى التباساً في الحقيقةِ، والحقيقةَ في التباسِ
ويرى انتحار العشق والعشاق ما بينَ احتراسٍ واحتراسِ
ويرى برغو كؤوسه ما لا تجيء به الأماسي
وطناً بلا عسسٍ وخبزاً ساخناً ويداً تواسي
ويرى بعيراً طائراً، طفلاً يطارد نجمةً..
قمراً يقوم من الحصى..
وغزالة تحنو عليها ذئبةٌ..
ويرى انبثاقَ البحرِ والحيتانِ في الأرض اليباسِ
ويرى على رأس الشهيد يمامةً، ويرى الطّغاةَ بغير راسِ
ويرى بلاداً تستعيدُ سماءَها وطيورَها
ويرى شعوباً تدفن الموتى أخيرا
ويرى أسيراً يستعيرُ من القطاةِ جناحَه حتى يطيرا
ويرى أصابعَ عاشقٍ تمتدّ مصباحاً منيرا
فدعي سؤالك واتبعيني
الحبُّ ثانيةً.. وليس الحبُّ إلا أن أكون وأن تكوني
****
وهنا الذي أبلى بمطلب روحه جسماً يروح بغير زادِ(1)
يمضي على قلق وتسلمه الرياح لكل وادِ
الخيل تعرفه، وتعرفه الليالي والأغاني والبوادي
- ما أنتَ في كلّ البلادِ، وما تريدُ من البلادِ؟
- كلُّ البلادِ طويتُها...
لكنني ما زلتُ أبحث في فضاء الروح عن نجمٍ يدلُّ على بلادي
وأريد أن أُعْلي بلادي
وطناً من الشعراءِ والعشاقِ..
لا كافورُ يحكمه، ولا الشرطيُّ يطلع فيه من لونِ المدادِ
*****
وهنا «أبو حيانَ» يوغِلُ في اغتراب الروحِ..
لا الدنيا تراوده، ولا الصحراء تعرفهُ..
ولا بغدادُ تمنَحُه يَدَيْها
أوّاه ما أقسى اغترابَ الروح في زمنٍ..
يرى الشعراءَ والادباءَ والحكماء نافلةً..
وحاشيةً يريحُ التاجر العِنّين ركبتهُ عليها
فاحرقْ كتابكَ أيها العقل النبيلُ
وادفنْ سؤالك في المدى..
ولينتحرْ فيك النخيلُ
وانصبْ لشمس الله وجهكَ، قد دعاك له الرحيلُ
لا الدار دارُك، لا ولا الصفصاف ينمو عن بابكَ..
والهوى عَجٌَل، وحلمك مستحيلٌ
والغانيات يملنَ أنّى هذه الدنيا تميلُ
هذا زمان ليس يعرف فيه قاتله القتيلُ
هذا زمان نصفه أمسٌ وحاضره دخيلُ
العمرُ ضاع على طريق العمر، والآن ابتدا الموتُ الطويلُ
فارحلْ فقد أذن الرحيلُ
ارحلْ إلى زمن وراءَ الأزمنهْ
أشعلْ يديكَ علامةً، واجعلْ فؤادك أحصنه
وابدأْ حوارَ الروح تلقَ الروحَ في الدّفلى وفي سرب المها والسوسنه!
اِرحلْ إليْ
واطوِ المكانَ إلى مكاني، والزمانَ إلى زماني
فأنا استراحاتُ المحارب والمحاربِ..
مجمعُ الأضداد في ملقى المشارق والمغاربِ..
يخرج المتحاربون من الخنادق ساعةً..
يتبادلون التبغ والأحلام والأشعار والذكرى..
ويروون النكات عن الحروبِ...
ويضحكون، ويسعلون، ويحزنونَ..
ويذكرون نساءهم وصغارهم،
ويترجمون رسائل الأحباب فيما بينهم
- هل صدفةٌ أنيّ ولدتُ هنا، وأنتَ هناكَ..
حتى نلتقي فيما يُفرّقنا
ونشبه بعضنا فيما يُمزّقنا..
وتجمعنا الرصاصةُ في صعيد الموتِ..
ما اسمُكَ، ما اسم زوجتك الجميلةِ..
ما اسم حارتك البعيدة، أين أكملتَ الدراسة.... لا تجبْ!
أخشى التقاء الروح في المطلقْ
أخشى امتزاج الحلم في الزنبقْ
أخشى انطفاء النار في الخندقْ
فلنفترقْ قبل اكتمال المعرفه
فأنا وأنت محاربان ولا يليق بنا سؤال الفلسفه
قد نلتقي في دمعة الأُمَّيْنِ..
حين نعود في كفنين.. من صنعي وصنعكْ!
قد نلتقي في سروةٍ طلعت على بعضي وبعضكْ!
لا شيءَ بعد الآن إلا أن تكون ولا أكونْ
أو أن أكون ولا تكونْ!
إذنِ الوداعا
لم تتسع هذي الحدود لحلمنا، فلعلَّ في الموت اتساعا
فقلِ الوداعا
وقلِ الوداعا
وغداً أراكَ إذا نَبَتْ عني وعنكَ رصاصتانِ
منّي ومنكَ، لنلتقي بعضَ الثواني
في ظلِّ هذا السنديانِ
حيث استراحاتُ المحارب والمحاربِ..
مجمعُ الأضداد في ملقى المشارق والمغاربِ..
إذ يضيء العاشقانِ.
إذ لا فواصلَ للزمان، ولا حدوداً للمكانِ
وأنا وأنتِ العاشقانِ
فدعي سؤالك واتبعيني
وطني جبيني
ويداكِ نخلٌ والمدى رَحْبٌ وأحلامي يقيني
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ يملأ الدنيا صهيلا
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ يوقظ الموتى، ويُرْديني قتيلا
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ يملأ الدنيا زنابقْ
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ يستضيءُ بنارِه مليونُ عاشقْ
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ ربما يكفي..
لكي تتناسلَ الدّفلى على حد الخنادقْ
ولديَّ من عينيكِ عشقٌ ربما يكفي..
لكي يتفتّقَ الرمان من خشب البنادق والمشانقْ
فدعي سؤالكِ واتبعيني
نامي على روحي، على صدري، على جمري..
على شِعري
على عشب تخلَّق من جنوني
نامي على غيم تقطّر من حنيني
نامي على موج تكوّن من فنوني
نامي وكوني مثلما شاءتْ ظنوني
نامي أَكُنْ، نامي تكوني
الحب ثانيةً
وليس الحبُّ الا أن أكون وأن تكوني..