كان والده الشيخ (حسن الجبرتي) من كبار علماء الأزهر، لكنه كان مميزًا عنهم، ففي الوقت الذي كان فيه زملاؤه يتجهون إلى دراسة الفقه والنحو والبلاغة والتفسير، أضاف هو إليها دراسة الرياضيات، والمسائل الفلكية، ولقب الجبرتي نسبة إلى (جبرت) إحدى مدن الحبشة الإسلامية التي رحل منها أجداد الجبرتي إلى مصر في القرن العاشر الهجري.
أحب الشيخ حسن الجبرتي هذه العلوم وتعلق بها تعلق الأم بوليدها حتى نبغ فيها، فتوافد عليه التلاميذ يستفيدون من علمه، ففتح لهم منزله الفسيح الرحب؛ حيث كان غنيًّا ورث عن آبائه المنازل والمتاجر، وازداد ثراؤه أكثر وأكثر من أرباح التجارة؛ لأنه كان تاجرًا ماهرًا في الوقت الذي كان فيه عالـمًا جليلاً.
في هذا البيت الحافل بالعلم والنعيم، ولد (عبد الرحمن الجبرتي) عام 1167هـ/1754م، لكن والده لم يفرح بولادته كسائر الآباء، بل استقبله استقبالا حزينًا؛ فقد ولد له أطفال كثيرون من قبل، وكان الموت يخطفهم من بين يديه بعد أن يبلغوا من العمر عامًا أو عامين، فكان يخشى أن يكون مصيره مثل مصير إخوته لكن عناية الله أحاطت بـعبد الرحمن فلم تمتد إليه يد الموت، وقدرت له الحياة.
نشأ عبد الرحمن في بيت أبيه، يحفظ القرآن الكريم، وكغيره من أولاد العلماء ذهب إلى المدارس والكتاتيب لتعلم العلوم الدينية، وعين له والده شيخًا ليحفظه القرآن هو الشيخ (محمد موسى الجناجي) وشب عبد الرحمن فرأى العلماء والأدباء يأتون منزل أبيه؛ يتحدثون في العلوم والآداب، فجلس يستمع إليهم، ويأخذ من علمهم، كما استمع إلى كبار رجال الدولة وأمراء المماليك وأغنياء مصر الذين كانوا لا ينقطعون عن زيارة أبيه، بل إن جماعة من الأوروبيين كانت تأتي إليه؛ ليتعلموا على يديه علم الهندسة، فعرف الجبرتي الكثير عن أحوال مصر وأسرارها، وكان يدخر كل ذلك في ذاكرته الحافظة الواعية، وازداد عبد الرحمن الجبرتي علمًا عندما ارتاد حلقات الأزهر الشريف.
توفي والد عبد الرحمن عام 1188هـ فترك له ثروة كبيرة وأراضٍ زراعية في أنحاء عديدة من مصر، فاضطر أن يتفقد أملاكه بنفسه، فرحل عن القاهرة حيث توجد هذه الأراضي في أقاليم مصر المختلفة فتهيأت له فرصة مناسبة ليعرف أحوال مصر، وطبقات الشعب من حكام وفلاحين وعمال ثم عاد إلى القاهرة بعد أن ازدادت معارفه، وواصل الشاب دراسته بالأزهر.
وأعجب (عبد الرحمن الجبرتي) بأحد علماء اليمن الذي وفد إلى مصر إعجابًا شديدًا وهو محمد المرتضي الزبيدي صاحب تاج العروس، ولازم مجلسه، حتى أصبح من تلاميذه المخلصين، وذات يوم أخبر (الزبيدي) تلميذه (الجبرتي) بأنه يريد أن يسجل أحداث الماضي، ويؤرخ لعلماء القرن الثامن عشر وأمرائه ومشاهيره، وطلب من الجبرتي أن يساعده في هذا العمل؛ فيجمع كل ما يستطيعه عن حياة السابقين، ويقرأ النقوش فوق القبور وعلى المساجد والآثار، وأعجب (عبد الرحمن الجبرتي) بالفكرة فأخذ يبحث ويسأل ثم يسجل معلوماته ويكتبها.
وبينما هو على هذه الحال مات أستاذه سنة (1205هـ-1790م) فحزن عليه حزنًا شديدًا، لكنه لم ييأس بل صمم على تكملة سيرته، فأخذ يكتب كل ما يراه ويشاهده، ويسجل كل صغيرة وكبيرة ومضت الأيام، وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، فكتب عنها بحياد تام وسجل يومياته أولاً بأول في كتابه (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس) وكتب عما ارتكبه الفرنسيون من تدمير ونسف وقتل، وما أمطروا به المساجد والأسواق والمنازل من قنابل أدت إلى موت الكثيرين من أبناء الشعب المصري، لكنه يغض الطرف عن بعض مزايا الفرنسيين مثل حبهم للعلم والعمل واحترامهم للقانون.
وكتب (عبد الرحمن الجبرتي) عن المماليك وكيف أن بعضهم كانوا ينهبون ويقتلون ويخطفون الغلمان والنساء، ويسرقون الحلي من صدور النساء، كتب كل ذلك دون أن يجامل أحدًا منهم، بالرغم من أنه كانت تربطه بهم روابط صداقة، فلم يكن كتابه مجاملة لأمير أو طاعة لوزير، ومضى عهد الفرنسيين وتولى (محمد علي) أمور الدولة فكتب (الجبرتي) بكل جرأة عن الغلاء الفاحش في عهد (محمد علي) وعن مصادرة الأموال، وانتهاك الحرمات، والسطو على المتاجر والمصانع، كما ندَّد بالطغاة أمثال: (سليمان أغا السلحدار) و(محمد الدفتردار) من أتباع الوالي، ومع ذلك لم يغفل ما قام به (محمد علي) من أعمال مفيدة كإنشاء المصانع وبناء السفن وتشجيع العلماء وسجل ذلك كله في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
وانتشر ما كتبه الجبرتي عن هؤلاء الظلمة، على ألسنة الناس فتربصوا به، وحاولوا النيل منه، فقتلوا ابنه خليلاً في سنة 1237هـ، وتوقف بعدها الجبرتي عن
الكتابة، وحزن على ابنه حزنًا شديدًا، حتى فقد بصره ومات
عام 1241هـ/1825م.
منقول