سنوات الضياع هو أسم أحد المسلسلات (التركية) التي يتابعـها بشغـــف
في هذه الأيام غالبية (العرب) في مصر والشام والسعودية واليمن ودول
المغرب العربــي.
ونحن هنا لسنا بصدد نقد للمسلسل وما يطرحه من أخلاقيات وقيم غريبة
على مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة.
لسنا هنا بصدد التباكي على شبابنا وفتياتنا وجيل بأكمله.. بـل على أمــــة
تجلس الآن غافلة عما يجرى حولها خارج دائرة التميز والأصالة والإبداع
والتفرد والذاتيـــة.
أمة تعيش مرحلة حرجة في تاريخ وجودها.. أمة تائهة عن ذاتها بعيدة عن
أصولها وجذورها.. مولعة بالتبعية والتقليد.. سائرة على سنــن النصـــــارى
واليهود شبراً بشبر وذراعا بذراع.
لن نناقش هنا التأثير السلبي لهذه المسلسلات وغيرها من نماذج دراميــــة
مشابهة على سلوك وأخلاقيات شبابنا وفتياتنا وعلى مؤسسة الأسرة وعلى
هويتنا وذاتيتنا وتكويننا الثقافي.
لن نفعل هنا شيئا من ذلك.. ولكننا سنكتفي فقط باقتباس عنوان المسلســـل
التركي.. لنضعه عنوانا لمشهد درامي هزلي ينتمي إلي الكوميديا السـوداء
يحياه اليوم (العرب) و (الترك) معا!
نعم، فالترك والعرب يعيشان بالفعل (سنوات الضياع)؛ فبعد أن تمـزق شمـلهما
وتفرق جمعهما وقضى على وحدتهما قبل ما يزيد عن ثمانين عامـا.. هـا همــا
اليوم يعيشان تداعيات ما حدث قبل عقود، فيعكــف العرب والترك اليــوم معـــا
على تقليد أعدائهما في الأخلاق والسلوك.. ويصران على الانقلاب على ذاتهما
والتنكر لثقافتهما ومسخ هويتهما الإسلامية الصافية.
إن العرب والترك يعيشان اليوم بدون هوية بعد أن رضيا بالتخلي عن الإسـلام
كمقوم للوجود والوحدة وكمشروع للنهضة.
وبعد أن تم إقصاء العملاق الأناضولي عن قيادة أمته الإسلامية.. ثم استئناسه
وتحويله إلى مسخ بلا هوية.
وبعد أن تم خداع بعض العرب فخانوا وثاروا على إخوانهم في الدين فطعنوهم
طعنات غادرة في ظهورهم.
وبعد أن تم إجبار البقية الباقية منهم بالحديد والنار على التوقيع عــلى صــــك
التبعية.
لنترك واقعنا اليوم.. ولنعد بالذاكرة إلى الوراء.. ولنطل على مشهد آخر مختلف
تماما.. يحمل عنوان (سنوات العزة والتمكين)؛ يوم كــان العرب والتــرك معـــا
تحت لواء الإسلام.. يوم كان المسلم على امتداد العالم الإسلامي يسجــل فـــي
بطاقة الهوية وفى سجلات المواليد كمسلم فقط دون النظر إلى جنسه أو عرقه،
ودون الالتفات إلى انتمائه العربـــي أو التركــي أو الشركســـي أو الألبانـــي أو
الكردي.
يوم كان الأبطال الكرد والتركمان يدافعون جنبا إلى جنب الأبطال العرب عن ديار
الإسلام ومقدساته.. ويهزمون جحافل التتار والصليبيين.
يوم كان (الأتراك) العثمانيون يبذلون أموالهم وأرواحهم في سبيل الدفــاع عـــن
الإسلام وحفظ ديار(العرب) من الاحتلال وصيانتها من أخطار الغــزو الأوربـــي
أربعة قرون كاملة (من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر).
يوم خلص (الأتراك) موانئ العرب وشواطئهم من الاستعمار الأسباني والبرتغالي
.. وجعلوا هذه الشواطئ – كما كانت – عربية إسلاميــة طوال مــــدة خلافتهــــم
وتبوئهم القيادة.
ويوم حقق (الأتراك) وحدة العرب وأنقذوهم من التشرذم و(الضياع)، وحافظــوا
عليهم عربا مكرمين ممنوعين في إطار دولة مسلمة واحــدة.
ويوم لم يعرف العرب أو الترك التعصب إلا لدينهم؛ ولم يقدموا على انتمائهـــم
للإسلام أي انتماء آخر من قومية عربية أو تركية، بل جمعتهم أخوة الإسلام
ووحدتهم كلمته وجاهدوا جميعا تحت رايته.
ويوم أخضع المجاهد التركي والعربي إمبراطورية (قسطنطين) وممالك أوروبا
لحكم الإسلام، ونشروا في ربوعها أخلاق الإسلام وقيمه ومبادئه.
هذا المشهد الجميل شوه وضاعت ملامحه وتبدلت عناصره عندما أحكم الصهاينة
والصليبيون وعملاؤهم من الماسون والدونمة قبضتهــم على دولـــة الخلافـــة،
واستطاعوا بمساعدة من غرروا بهم من سفهــــاء (العرب) تمزيــــق الوحــــدة
الإسلامية وتقطيع أوصال دولة الخلافة، وعندما مهد العميل المزدوج (لورنــس)
- ومعه شريف مكة (الحسين بن على) وابنه الفيصل وغيرهم - الطريق للجنرال
(اللنبى) إلى بيت المقدس، ثم إلى مثوى صلاح الدين (الكردي) في دمشق ليركله
بقدمه القذرة معلنا انتهاء (الحروب الصليبية).
بعدها بدأت بالفعل (سنوات الضياع)؛ فضاعت واحتلت ديار الإسلام، واستباح
الأوربيون أراضينا وثرواتنا ونهبوا خيراتنا، ودنس اليهود فلسطين واغتصبوا
ممتلكات المسلمين وانتهكوا حرماتهم.
نعم، بدأت بعد ذلك التاريخ (سنوات الضياع)؛ فأصاب المسلمين الهوان وذلــــوا
على أعدائهم، وانكشفوا أمامهم؛ فلم تعد هناك وحدة تغطيهم ولا سلطة تحميهم
ولا قوة يلوذون بها وتأويهم.
بدأت (سنوات الضياع) عندما خلف المستعمرون في (تركيا) وفى بلاد (العرب)
من ينوب عنهم في إكمال مشاريع هدم الثوابت ومحو الهوية.
والى اليوم ونحن نعيش (تركا) و (عربا) (سنوات الضياع)!
وتفاصيل المشهد المخزي ليست في حاجة إلى إبانة ؛ والمسلسل (التركي) الــذي
يشاهده (العرب) بشغف وحميمة في هذه الأيام، يدلنا على أن أعـداء الإســــلام
وأعداء ثقافته ، لا يكتفون بتغريب الجيل الحالي من المسلميــن عقـــلا وروحــا
وضميرا فقط.. بل يريدونه جيلا مسخا تابعا للغرب حتى في المشاعر والأحاسيس
والأذواق!
إنها (سنوات الضياع) تلك التي نحياها في هذه الأيام؛ عندما تسأل أحد المسلميــن
اليوم - سواء كان سعودياً أو مصرياً أو يمنياً أو أردنياً أو عراقياً أو شامــيــاً –
عن معلوماته عن (تركيا) بلد الخلافة الإسلامية أو عن (اسطنبول) أو عن (محمد
الفاتح) أو عن (السلطان عبد الحميد) أو حتى عن (نجم الدين أربكان) أو (رجـب
طيب أردوغان) أو (عبد الله جول)؛ فيجيبك بكل صفاقة وبجاحة وتفاهة: انـــه لا
يعرف عن تركيا سوى أنها بلد (مهند) و (نور)!