على طريقة الكاتب الأمريكى الشهير «دان براون»، فى روايته الأشهر «شفرة دافنشى» أجرينا هذا التحقيق.. رموز تبحث لنفسها عن حل.. شكوك بلا يقين، وافتراضات بلا قرائن.. وعليكم أن تبحثوا معنا عن حلها.. ماذا لو افترضنا أن قبر النبى موسى موجود فى مصر، وأن الأرض التى احتضنته جنيناً ووليداً وصبياً وشاباً ورجلاً، قد احتضنته ميتاً، وآوت جثمانه الشريف بين ذرات ترابها.
مهلاً.. قبل أن يتهمنا أحد بالخبل.. نعترف قبل أى شىء بأننا لا نملك أى دليل، فقط نعرض ما توصلنا إليه، تاركين لكم القرار النهائى فى الموضوع.. قد تختلفون معه، وقد تتفقون، وقد يخرج علينا من يرمينا بإثارة البلبلة، وبث الفتنة، وقد يخرج من يشجعنا ويسعى للبحث وراء ما سننشره.. كل شىء جائز، وكل شىء مباح فقط لا تتسرعوا فى إصدار أحكامكم.. قليلاً من التروى يرحمكم الله.
الحكاية بدأت فى يوم عادى بحوار عادى مع موظف بهيئة الآثار بمدينة السويس عن الآثار الموجودة فى المدينة.. كان الموظف بحكم خبرته الطويلة فى المنطقة يعدد الآثار الكثيرة التى خلفتها العصور القديمة من فرعونية إلى يونانية مروراً بالرومانية، وليس انتهاء بالإسلامية، راح الحوار يجرى هادئاً سلساً إلى أن قطعه الموظف فجأة وخفض صوته كمن ينوى أن يدلى بسر خطير.. قال إن المدينة تحتوى على أسرار لم تكتشف بعد، وأكبر دليل على ذلك فرضية يبحث فيها مع صديق له تدور حول إمكانية وجود قبر النبى موسى فى المدينة متخفياً فى شكل ضريح ولى من أولياء الله الصالحين يدعى الشيخ مشيمش.
لم يكن الرجل يهزل، ولم يظهر فى صوته أى إشارة تدل على التهريج.. سنه المتقدمة، وهيئته الوقور شجعتنا على الانتباه لما يقول، وعندما شعر هو بتزايد الاهتمام راح يقص الحكاية بتفاصيل غاية فى الإثارة، قال إن هناك أكثر من دلالة دفعته وصديقه لأن يوقنا بوجود قبر النبى موسى فى المكان الذى عينه، أول دلالة هو اسم صاحب الضريح نفسه والذى يدعى مشيمش، الأمر لا يخفى معه التشابه الشديد بين اسمه واسم النبى موسى والذى يُنطق فى العبرية «موشيه»، والدلالة الثانية هى وجود الضريح فى شارع يحمل اسم «الخضر»، وهو اسم الرجل الصالح الذى صحبه النبى موسى فى الحكاية الشهيرة التى وردت فى الكتب المقدسة، مع العلم كما يقول الموظف بأنه من غير المعروف سبب تسمية الشارع بهذا الاسم، هذا غير وجود منطقة تل اليهودية - وهى منطقة أثرية - بالقرب من المكان، بالإضافة إلى أن عيون موسى الشهيرة موجودة على بعد كيلومترات قليلة من المحافظة، على الضفة الأخرى لقناة السويس.
على أن أخطر الدلالات من وجهة نظر الموظف وأكثرها إثارة ساقها فى نبرات هادئة، شارحاً بها الطقوس الغريبة التى تصحب زيارة ضريح ذلك الولى، وهو المعروف بشفاعته فى شفاء الأطفال حديثى الولادة ممن لم يعرف الأطباء سبباً لأمراضهم، تبدأ الطقوس كما يروى الموظف باصطحاب الأمهات لأطفالهن المرضى إلى الضريح وقت صلاة الجمعة، وتركهن إلى جانب الضريح، ويخرجن، وعقب انتهاء الصلاة يدخلن ويأخذن أطفالهن ويقمن بغمرهم بملابسهم فى مياه البحر الأحمر، ثم ينزعن الملابس التى يرتديها الأطفال ويلقين بها فى مياه البحر، ويترقبن فترة ثلاثة أسابيع، إذا قدر للطفل أن يشفى ويعيش فسوف يتجاوز الأسابيع الثلاثة، أما إذا قدرت له الوفاة، فسوف يموت قبل انقضاء المدة.
الطقوس الغريبة كانت سبباً منطقياً لأن يربط موظف الآثار بينها وبين قصة النبى موسى التى وردت فى الكتب المقدسة، والتى تلعب فيها المياه دوراً كبيراً بدءاً من احتضانه رضيعاً فى صندوق عائم، وانتهاءً بمعجزة شقه البحر ونجاته مع بنى إسرائيل.
الدلالة الأخيرة لم تأت من كلام الموظف، وإنما جاءت على لسان أثريين يعملون فى السويس، قالوها لنا فى معرض حديث عام عن الآثار هناك، إن جبل عتاقة الذى يحد المدينة من جهتها الجنوبية الغربية يأخذ فى بعض قطاعاته صورة لفرعون نائم.. يرتدى تاج الوجهين، ويترك ذراعيه منسدلتين إلى جواره. هذه المرة سمحنا لأنفسنا أن نربط نحن بين ما ردده الأثريون، وما ذكر فى الكتب المقدسة من غرق فرعون موسى ونجاته ببدنه ليكون لمن خلفه آية.. فرضية قد تصح، أو العكس.
رفض موظف الآثار ذكر اسمه، خوفًا من عقاب ما قد يقع عليه، غير أنه سمح لنا أن نبحث فى الموضوع ونحققه صحفيًا، كان علينا أن نبدأ من الضريح نفسه، هو بالفعل يقع فى شارع الخضر، على بعد خطوات قليلة من مسجد الغريب بمنطقة السويس.. منظره العام من الخارج لا يوحى بشىء غير طبيعى.. مجرد بناء قديم مكون من طابق واحد فقط.. جدرانه مطلية باللون اللبنى، ذو ثلاث نوافذ وباب واحد للدخول وعلى جدرانه الخارجية نقشت الآية القرآنية «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، وإلى جوارها «هذا مقام يحيى مشيمش رضى الله عنه».
من هو الشيخ مشيمش؟ قالت أم عاطف إحدى سكان المنطقة إنها لا تعرف على وجه التحديد من هو رغم أنها تسكن فى المنطقة منذ أكثر من خمسين سنة، غير أنها قالت إن المنطقة قديمًا كانت عبارة عن أرض مخصصة للمقابر، ولذلك يكثر بها وجود أضرحة من عينة ضريح الشيخ مشيمش، وأعادت أم عاطف رواية طقوس زيارة ضريح الشيخ كما رواها الموظف بالضبط، وزادت عليها قائلة إنها هى نفسها لجأت فى إحدى المرات إلى الضريح بطفلها الذى سقط على الأرض ولم تجد له علاجًا عند الأطباء، وبعد زيارة واحدة لضريح الشيخ، وما تلاها من طقس الغمر فى مياه البحر الأحمر، شفى وليدها، وعاد إلى حالته الطبيعية مرة أخرى، تبتسم أم عاطف فى حياء قبل أن تقول «خلاص بطلنا الحكاية دى، الناس دلوقت بتقول ده حرام، وما بقاش فيه حد بييجى هنا خصوصًا بعد ما عم على مات».
وعم على شلاضم الذى يقول سكان المنطقة إنه توفى قبل ما يقرب من أربعة أشهر كان يسكن داخل الضريح، بالتحديد داخل إحدى حجرتين يضمهما البناء كما قالت أم خالد التى تسكن فى منزل ملاصق تمامًا للضريح. وأضافت: «المرحوم كان هو اللى بيفتح المقام كل يوم، ويوم الجمعة مخصوص كان بيسيبه للناس، إنما حتى دلوقت ما عادش حد بيصدق الكلام ده، ولا عاد حد بييجى زى ما كان بيحصل الأول»، أم خالد قالت إن خدمة الضريح آلت بعد وفاة على شلاضم إلى ابنة أخت له تأتى فى أوقات متفرقة، ولكنها لم تعد تفتح المقام خاصة بعد أن لفت الجيران نظرها إلى أن الاستعانة بغير الله تعد شركًا، وبفتحها الضريح تساعد هى على هذا الشرك.
هل يقوم ما سبق دليلاً على صحة الفرضية؟.. ربما، لكن لندع ما ذكرناه جانبًا ولنستعن بالكتب المقدسة لنرى كيف تحدثت عن قبر النبى موسى، سنجد أن القرآن رغم تعرضه لحياة النبى موسى فى كل مراحلها سواء جنينًا أو رضيعًا أو شابًا، فإنه لم يتعرض على الإطلاق لوقائع وفاته أو دفنه، هذا ما قاله الدكتور محمد جبريل، رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وهو عكس ما ذكره القمص عبدالمسيح بسيط أستاذ اللاهوت والدفاع بالكلية الأكليركية عارضًا الأيام الأخيرة فى حياة النبى موسى، قال بسيط إن موسى كان نبيًا وقائدًا من قبل الله لقيادة شعب إسرائيل فى فترة الخروج من مصر إلى أرض كنعان، فقاد بنى إسرائيل فى برية سيناء لمدة 40 سنة، حتى وصل إلى مشارف أرض كنعان، وهناك أعلنه الله بموته فودع الشعب، وسلم القيادة لتلميذه يشوع بن نون، ومات وبكاه شعب إسرائيل بكاء مراً، ودُفنَ، ولكن الله أخفى قبره حتى لا يتخذه بنو إسرائيل بمرور الزمن إلهاً يعبدونه.
«بسيط» دلل على كلامه بما جاء فى العهد الجديد أو «الإنجيل» من أن الله أخفى جسد موسى، وقبره لم يعرفه أحد على الإطلاق، ولما حاول الشيطان أن يكشف القبر حتى يعيد الوثنية مرة أخرى، أرسل الإله الملاك ميخائيل ليقول للشيطان «من مثل الرب»، أو «مى كا إيل» حسبما ذكرت بالعبرية، كما يقول بسيط.
ما ذكره بسيط يتوافق تماماً مع ما جاء فى العهد القديم، أو التوراة.. «الكتاب المقدس» لدى اليهود، فقد جاء فى سفر التثنية، الإصحاح الرابع والثلاثون ما يأتى «1- وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو، إلى رأس الفسجة الذى قبالة أريحا، فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان.
2- وجميع نفتالى وأرض أفرايم ومنسى، وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربى.
3- والجنوب والدائرة بقعة أريحا مدينة النخل، إلى صوغر.
4- وقال له الرب: هذه هى الأرض التى أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلاً: لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هناك لا تعبر.
5- فمات هناك موسى عبدالرب فى أرض موآب حسب قول الرب.
6- ودفنه فى الجواء فى أرض موآب، مقابل بيت فغور. ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. 7
- وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته.
8- فبكى بنو إسرائيل موسى فى عربات موآب ثلاثين يوماً. فكملت أيام بكاء مناحة موسى.
9- ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة، إذ وضع موسى عليه يديه، فسمع له بنو إسرائيل وعملوا كما أوصى الرب موسى.
10- ولم يقم بعد نبى فى إسرائيل مثل موسى الذى عرفه الرب وجهاً لوجه. وطبقاً لما جاء فى «التوراة» فإن القمص عبدالمسيح بسيط، يرفض تماماً فرضية وجود قبر النبى موسى فى السويس، مؤكداً أنه مات على مشارف أرض كنعان، فكيف يدفن فى مدينة السويس، بالإضافة إلى رأى شخصى أبداه بسيط فى موضوع الأولياء والقديسين وكراماتهم، قائلاً إن المبالغات فى هذه الناحية كثيرة، وأحياناً تكون مبالغات لا يقبلها العقل أو المنطق.
كان علينا أن نلجأ لمتخصصين فى الآثار، حتى تكتمل القصة من جميع جوانبها، قال لنا أحمد صالح مدير آثار ميت رهينة إنه قام بالبحث كثيراً فى قصة خروج بنى إسرائيل من مصر من الناحية الأثرية فوجد أنه لا يوجد دليل أثرى واحد يتوافق مع ما ذكرته الكتب المقدسة، على سبيل المثال قال صالح إن «التوراة» حددت أكثر من ستين محطة مر عليها بنو إسرائيل فى رحلتهم الكبيرة داخل أرض «التيه» والتى استغرقت 40 سنة،
إلا أن علم الآثار لم يستطع أن يعثر على مكان واحد من الستين، ولهذا فقد اختلف الباحثون كما يقول صالح فى كون حدوث قصة هروب بنى إسرائيل من فرعون فى مصر من عدمه، فهناك من يقول بأن قصة الخروج وعبور البحر حدثت فى اليمن، وأن الأسماء التى ذكرت فى «التوراة» هى نفسها أسماء لمدن موجودة هناك، وإذا كان هناك خلاف على قصة الخروج والتيه بين علم الآثار والكتب المقدسة، فكيف سيتفق الطرفان على وجود قبر موسى فى السويس وهو الموضوع الجدلى بطبعه كما يقول صالح على أن عدم وجود دليل أثرى على قصة الخروج من مصر، وتيه بنى إسرائيل فى صحراء سيناء، وجه العلماء إلى البحث فى موضوع آخر وثيق الصلة بالموضوع الأول، ألا وهو تحديد الفرعون الذى حدثت فى زمنه القصة، فيقول صالح إنه حتى وقت قريب جداً كان يعتقد أن رمسيس الثانى هو أكثر من تنطبق عليه الروايات التوراتية والقرآنية، رغم الاختلاف فى الاثنين،
فالتوراة تقول بوجود فرعونين، واحد للاضطهاد، وآخر للخروج، فى حين يتحدث القرآن عن فرعون واحد اضطهد بنى إسرائيل وطاردهم خارج مصر، وإذا حاولنا التوفيق بين الروايتين سنجد أن الفرعون فى كلتا الحالتين يحتاج لعمر طويل فى الحكم حتى يعاصر هذه الأحداث، ولما كان الفراعنة الذين تولوا سدة الحكم فى مصر لمدد طويلة قد انحصروا فى ثلاثة فراعنة هم: «بيبى الثانى» الذى حكم فى أواخر الدولة القديمة وتوفى عن عمر ناهز الـ90، وتحتمس الثالث الذى حكم حتى وصل عمره لـ54، ورمسيس الثانى الذى حكم لمدة 67 عاماً.
أسباب كثيرة دفعت صالح لأن يعتقد كما يقول فى البداية بأن رمسيس الثانى هو فرعون موسى، منها على سبيل المثال أن رمسيس الثانى هو أول فرعون «يتجرأ» ويضع تمثاله مع تماثيل الآلهة الأربعة الكبار فى قدس الأقداس بمعبد أبوسمبل، وإلى جوار التمثال نقش منسوب لرمسيس يقول فيه «أيو إى إم نتر عا»، أو «إننى أنا الإله الأعظم»، مما يتوافق مع الآية القرآنية التى يقول فيها فرعون «أنا ربكم الأعلى»، غير أن عدم وجود دليل أثرى كما يقول صالح جعله يدفع عن نفسه هذا الاعتقاد.
المشكلة إذن فى الدلائل الأثرية.. فرغم البحث والتقصى لم يستطع أحد أن يعثر على مكان واحد ذكرته التوراة فى سيناء يدلل على قصة خروج اليهود من مصر، ورغم البحث والتقصى فلم تستطع أى من البعثات الأثرية التى عملت أو التى تعمل حالياً فى مصر تحديد مكان عبور بنى إسرائيل من شرق الدلتا إلى سيناء، ورغم البحث والتقصى ومحاولة تحليل مومياء رمسيس الثانى فى فرنسا منتصف سبعينيات القرن الماضى لمعرفة ما إذا كان جسده مشبعاً بأملاح البحر كدليل على غرقه فى مياهه، لم يستطع أحد تحديد شخصية فرعون موسى سواء الخروج أو الاضطهاد، فهل يظل لغز تحديد قبر النبى موسى قائماً مثل غيره مع البحث والتقصى؟!