قد يمر الرسول صلى الله عليه وسلم
في مكان فيرى أمراً يستحق التعليق عليه ، أو يسمع كلمة فيلقي الضوء عليها ،
فتكون هذه الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم عظة وعبرة تؤثر في
نفوس أصحابه ، وقد يحاور أصحابه ليصل معهم إلى فكرة يثبتها في عقولهم ، أو
يرشدهم بها ويهذب نفوسهم ، ويدلهم على طريق الخير الموصل إلى رضاء الله
تعالى .
من ذلك ما رواه عمر الفاروق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ
قال :
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَـبْيٍ ، فإذا امرأة من السبي ( الأسرى
) قد تحلَّب ثديها إذ وجدت صبياً في السبي ، فأخذته فألزقته ببطنها
فأرضعته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أترون هذه المرأة طارحة
ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه ؟ قلنا : لا والله . قال : فالله
تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها .
وكثيراً ما كان السبي في ذلك الوقت ،
وكثيراً ما كانت النساء يفعلن ذلك بأولادهن ، فهذا أمر عادي ألفه الناس ،
فهو جزء من حياتهم اليومية ، ففقدوا بهذه العادة التلذذ بمعنى الأمومة
والأبوة .. فنبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو المعلم العظيم -
إليها فتذكروها ، ثم قادهم إلى أهم من ذلك .
قادهم إلى حب الله إياهم
ورحمته بهم ، فإذا الله تعالى بقوته وعظمته وسلطانه ـ وهو ليس بحاجة إليهم ـ
يحبهم هذا الحب الكبير ، أفلا يستحق ـ سبحانه ـ أن يبادلوه حباً بحب ؟ !
هم عبيده يحتاجونه في كل لمحة وحركة ، في كل طرفة عين ونَفَسٍ ، نواصيهم
بيده ، ماض فيهم حكمه ، أفلا يتوجب عليهم أن يخلصوا في عبادته والإنابة
إليه ، والعمل بما يرضيه ؟!..
إنها لفتة عظيمة من المعلم العظيم صلى الله عليه وسلم .
وهذا
أحد أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو حكيم ـ فيما يروي البخاري
: يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاوره قائلاً : يا رسول الله من
أبرُّ ؟ ( يريد أن يكون من أهل الله الذين يبغون ثوابه ويخافون عقابه ) .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أمك . ( كلمة واحدة تعبر عن إرضاء الأم
الكريمة ذات الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ، فالجنة تحت أقدامها ) .
قال
: قلت : من أبرُّ ؟ ( أي من أبرّ بعدها يا رسول الله ؟) قال صلى الله عليه
وسلم : أمك . ( إذن ففضلها كبير يا رسول الله ، لا يدانيه فضل مهما علا
وسما ) .
قلت : من أبرُّ ؟ ( من في المرتبة الثالثة بعد الأولى والثانية
المخصصتين للأم حفظها الله ورعاها ؟)\قال صلى الله عليه وسلم : أمك . (
الله أكبر ، إنها كلمة كررها رسول الله تنبئ عن فضل الأم ، فهي نبع الحنان
ونهر الرحمة وسحائب الغفران ، إرضاؤها خطير وإكرامها واجب كبير ) .
قلت : من أبرُّ ؟ ( أهناك من أبره بعدها يارسول الله ؟ ، هي في المقام الأول والثاني والثالث ، هي باب الجنة ومفتاح الخيرات . )
قال
ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أباك . ( فهو المربي والأسوة الحسنة لأولاده ،
يشقى لأجلهم ويتعب لراحتهم ، رضاه من رضى الرب ، وسخطه من سخط الرب إكرامه
واجب وحبه لازب ، أدخلهما الله جميعاً جنته في الفردوس الأعلى ) .
ثم
الأقرب فالأقرب إنه الدين العظيم الذي يدعو : إلى الإحسان والبر ، وإلى
التوقير والاعتراف بالفضل ، والذي يدعو إلى صلة الأرحام ، وبناء مجتمع
المحبة والوئام .) .
والحوار الذي يقوم على طرح الأسئلة من الرسول صلى
الله عليه وسلم على أصحابه ، أو من الصحابة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم يثير الانتباه ، ويحرك الذكاء ويقدح الفطنة ، فتراهم يرتوون من حكمته ـ
صلى الله عليه وسلم ـ في قالب من الاقتناع والحوار الهادف .
تعال معي لترى مصداق ما قلناه :
عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ أن أباه أتى رسول الله ـ صلى اله عليه وسلم ـ فقال :
إني نحلت ( أعطيت ) ابني هذا غلاماً كان لي .
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا ؟
قال : لا .
قال
ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فأرجعه . وفي رواية : ( اتقوا الله واعدلوا في
أولادكم ) . وفي رواية : ( فلا تشهدني إذن ، فإني لا أشهد على جور أبداً ) ،
وفي رواية ثالثة : ( فأشهد على هذا غيري ) .
ثم قال : أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟
قال : نعم . قال : فلا إذن { متفق عليه ، وهو في رياض الصالحين الحديث / 341 / .
حوار
هادف وضح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن العدل بين الأبناء مطلوب ، وأن
البر بهم يؤدي إلى برهم بوالديهم ، وأنه كما تدين تدان . كما وضّح الحديث
أن على الإنسان ألا يشهد بغير الحق والعدل ، وأن عليه تبصير الناس بأمور
دينهم ، وأن يكون الداعية عوناً لإخوانه على إرضاء الله عز وجل .
ومن
الحوار الذي أثرى فيه الحديث عن فضيلة الصدقة والحث عليها ، ما رواه عبد
الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟
قالوا : يا رسول الله ، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه .
فقال صلى الله عليه وسلم : اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، مالك ما أنفقت ومال وارثك ما أخرت .
محاورة وضعت النقاط على الحروف بأسلوب مقنع واضح لا تعقيب عليه .
ومن
الأحاديث التي بينت صغار الدنيا وهوانها على الله تعالى : ما رواه جابر بن
عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر بالسوق
... فمر بجدي أسكَّ ( الأسك : مصلوم الأذنين ومقطوعهما ) ميت ، فتناوله
بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟
قالوا : ما نحب أنه لنا بشيء . ( أو ما نصنع به ؟ )
قال : أتحبونه أنه لكم ؟
قالوا : والله لو كان حياً كان هذا السك عيباً فيه ، فكيف وهو ميت ؟!
قال : فوالله ؛ للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .
أسلوب
حواري عملي ، يرى رسول الله جدياً ميتاً ، مقطوع الأذنين ، تزكم رائحته
الأنوف ، يمسكه من إحدى أذنيه ويعرضه على أصحابه ، أن يشتروه بدرهم ،
فيأبوا ذلك ، وماذا يفعلون بجيفة قذرة ؟ ولو كان حياً وهو مقطوع الأذنين ما
رغبوا فيه فكيف وهو ميت ؟!
وحين يصلون إلى هذا القرار يعظهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ، لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى
الكافر منها شربة ماء